سربُ طيور السنونو !


(شمس المعارف) .. الفيلم الذي يشبهنا.

لا تبدو فكرة مطاردة الحُلم فكرة جديدة في عالم الأفلام، ولكن هذا النوع من الأفلام لا يُركز على الفِكرة ولكن على رحلة الأبطال نفسها، وحتى على مستوى الحُلم نفسه؛ أن تلاحق شغفك في صناعة الأفلام في مجتمع لا يحمل الكثير من التقدير لهذه الصناعة في فترة زمنية ما، لا تبدو الفكرة هذه أيضَا جديدة في ساحة الأفلام السعودية التي شهدت مخاضًا صعبًا قبل التغيرات الجوهرية التي فتحت الباب على مصراعيه ليس فقط لترخيص دور السينما، ولكن لدعم كبير موجه للعاملين في القطاع، ولكن إذا كانت الفكرة غير جديدة تمامًا، فما هو الجديد الذي قدّمه فيلم (شمس المعارف) على صعيد السينما السعودية ؟

الثقافة من الأسفل للأعلى

تتسم أعمال كثيرة سابقة بكونها أعمال موجهة من الأعلى للأسفل، وأقصد بذلك أنها أعمال تنطلق من كتابة لا تنتمى بشكل مباشر للواقع، مما يُشعرك بالانفصال عنها. تُساهم عوامل عديدة في خلق هذا الانفصال، ابتداءً من كتّاب سيناريو لا ينتمون بشكل عضوي للثقافة المحلية، ومرورًا بممثلين لا يتكلمون كما نتكلم في الشارع والمدرسة والعمل، وأخيرًا مخرج متأثر بمدرسة مباشرة رساليّة تقليدية، أو على النقيض من ذلك؛ بمدارس نخبوية متعالية تتعامل مع المتلقي بوصفه أقل قدرة على الفهم.

يأتي فيلم (شمس المعارف) بوصفه نقيضَا لكل ذلك، فالممثلين يشبهوننا، والمخرج يُجيد اللغة التي نفهمها، والحوارات مليئة عن آخرها بتفاصيل الحوارات اليومية، ابتداءً من تفاصيل المدرسة، وعلاقات الطلّاب والمعلمين، والحارة، وليس انتهاءً باللغة التي يصفها البعض بالبذيئة.

أحد النقّاد البارزين في المشهد السعودي كتب مقالًا نقديًا عن الفيلم، أو هكذا ظننت، لكن المقال تمركز حول قاموس الشتائم في الفيلم، باعتباره دلالة على انحطاط الفيلم وسقطته في مستنقع!

يكفي أن تحضر مباراة واحدة في الملعب، أو تدرس عامًا واحدًا في مدارس التعليم العام – وليس 12 عامًا -، أو تستحضر جلسات الاستراحة والمقاهي والأصدقاء، وفي حالات كثيرة جلسات العائلة في شاي المغرب مثلًا، لترى أن قاموس الشتائم ليس مُقحمًا في السياق، ولا مفروضًا على النص، ولكنه يحضر بشكل واقعي وسلس لإضفاء صيغة محلية وحقيقية لشكل الحوارات، دون تجميل أو تعالي.

ليست اللغة فقط نابعة من صميم الواقع المحلي، ولكن كل التفاصيل الصغيرة التي تحضر في الفيلم، مشهد الممثلة في مدرسة الأولاد، أو مشاهد الحارة (وعلم الاتحاد الظاهر في خلفية أحدها)، وحوارات الأم والابن وقلق العائلة الذي لا ينتهي كلّما ظهر وسطهم ابن باهتمامات (ما تجيب فلوس!)، شخصيًا أعرف هذا النوع من الحوارات جيدًا كشخص اهتم في وقت مبكر بالكتابة والأدب والشعر التي (ما توكّل عيش) كما اعتاد الآباء والأمهات أن يقولوا.

النكتة .. من الأسفل للأعلى أيضَا.

لطالما كانت صناعة النكتة واحدة من المعضلات المتكررة في صناعة أي فيلم سعودي، وغالبًا لم يكن الأمر يستدعي الكثير من العبقرية والعناء لصناعة واحدة؛ استدعي البُعد المناطقي لصنع نكتة سخيفة عن شخصية الجنوبي أو النجدي أو الحجازي .. الخ، أو استدعاء البعد الجندري لتكرار صناعة نكات تدور في فلك (أبوسروال وفلينة وأم ركب سودا)، أو الذهاب للمنحنى الأسهل دائمًا: التهريج.

ولكن خلفية الأخوين قدس الطويلة في صناعة الكوميديا ساهمت في الخروج تمامًا من هذه المعضلة المتكررة، والاتجاه نحو خلق كوميديا حقيقية غير مصطنعة وغير مبتذلة، كوميديا لا تقلّل من شأن المتلقي، ولا تستهدف إضحاكه رغمًا عنه، وبعبارة أدق: كوميديا – مثل تفاصيل أخرى كثيرة في الفيلم – تشبهنا وتمثل خصائصنا الثقافية الدقيقة.

الشخصيات ذات الأبعاد المركبّة

لم يكن من المعتاد حتى في الأعمال الدرامية السعودية الاشتغال على تعقيد الشخصية وتركيبها، في مقابل حضور طاغي لشخصيات ذات بُعد واحد، هناك دائمًا المدرس العصبي، أو المدير المعقد، أو الطالب الدافور، أو الدرباوي الطائش .. الخ.

في مقابل ذلك نجح الفيلم في تقديم بعض التعقيدات في حياة الأبطال، وتحديدًا الأستاذ عُرابي، الأستاذ المُلقب بالاندرتيكر، لصرامته الشديدة وتعنيفه المستمر للطلاب، يتعمق الفيلم في بعض انعطافاته في شخصية الأستاذ عُرابي، الكومبارس في مسلسل طاش ما طاش، والمؤمن بشدّة بحاسته الفنية، وكما يقول هو: ” افصل بين عرابي أستاذ .الفيزياء، وعُرابي الفنّان!”.

لقد استطاع الفيلم -الاجتماعي الكوميدي إذا صحّ التصنيف – أن ينتقل من مشاهد كوميدية منوعة ومحبوكة جيدًا إلى ذروة عاطفية في نهاية الفيلم، حين تصبح الأحلام حقيقة، وتكون الصداقة – دائمًا – هي جيشك الأول والأخير في حرب الأحلام التي لا تنتهي.


حارسُ الحقيبة

أصدقائي تقدموا عني قليلًا فضعت وسط الضباب، قابلت مخلوقًا غريبًا، قال لي عُد، لا يمكنك المرور إلا لو كنت حارسًا لشيءٍ ما .

عدت أدراجي، ثم تذكرت أنني أحرس عصاتي و حقيبة ظهري، فأدخلني لعالمٍ سحري !

كان هناك العديد من المستجدين مثلي، هناك من يحرس جاكيتًا صوفيًا، و هناك من يحرس كرة مطاطية صغيرة، و هناك من يحرس خاتمًا .

بحثت في الوجوه عن وجهٍ أعرفه، و يا للغرابة، أشعر أنني أعرف كل الوجوه جيدًا، أعرف ماضيها الحميمي، أعرف أسرار حاضرها، و إشارات فقط عن مستقبلها، و رغم ذلك أنا لا أتعرف على أي وجهٍ لأي أحد .

 قال لي الساحر المسؤول عن تعميدي أن علي أن اختار غرضًا واحدًا فقط، إما أن تصبح عصاتي كائنًا سحريًا يتحول للحيوانات التي أشاء وقتما أشاء، و إما الحقيبة، اخترت الحقيبة، و لكنني الآن بعدما استيقظت تمنيت لو أنتي اخترتُ العصا !


عشرُ ميتات بئيسة للقطط، مضحكة للانسان

١- علي أن أعبر الرصيف للرصيف، لا داعي للخوف، من يرغب بقتل قطة حامل ..
٢- لماذا يدور بي هؤلاء الصبية من ذيلي، عليهم أن يتوقفوا، عليهم ذلك، لماذا لا يفهموا موائي، لماذا لا … ، لماذا …
٣- لا شأن لي بالحرب، ما هذا الطائر الضخم الهابط من السماء ؟
٤- عيون هؤلاء الآسيويين الجائعين تصيبني بالرعب .. 
٥- اللعنة على هذا الانسان المغتصب الضخم، لماذا لا يعاشر امرأةً بدلاً مني !
٦- الشتاء قارس، ساختبئ داخل محرك سيارة دافئة ..
٧- على هذه الفتاة المدللة أن تتوقف عن ….
” ماتت لسبب غامض “
٨- وُلدت عمياء، و ماتت بعد أيام قليلة
٩- لماذا يظن هؤلاء اللاجئون الجوعى أنهم أحق بالحياة مني، إنني محاصر، يلعن روحك يا حافظ !
١٠- أنا القط العاشر، لا زلت على قيد الحياة و أكتب ..

لا تقع في غرام روائية !

أبداً لا تقع في غرام امرأةٍ روائية، إنها تريدك أن تشبه كل أبطالها الورقيين مرة واحدة من غير أن تشبههم، أن تكون الشيء و ضده، الشخصية و شيطانها في الآن نفسه، أن تكون عشيقاً كفلورينتيو – من رواية الحب في زمن الكوليرا – و لكن أن تكون زوجاً كنقضيه الدكتور أوربينيو، هي روائية، و عقلها مُعتاد على تشكيل الشخصيات و عجنها، أنت صلصالٌ بالنسبة لها، عليك أن تكون جموحاً كزوربا، و معتوهاً كشخصيات دستوفيسكي المصابة بعقد نفسية مظلمة، و لكن من غير أن تخيفها و لا مرة، عليك أن تكون كذلك كي تثيرها فقط، ثم تتحول لشخص ممل و روتيني يشبه بطل رواية الغثيان كل لا تخيفها، مرةً أخرى، عليك أن تكون كل ذلك معاً، عليك أن تكون مثيراً في نظر كل الأخريات ككازانوفا و دون جوان و أبطال كونديرا العابرين، و لكن من غير أن تكون عابراً، أنت صلصالها و هذا كل ما في الأمر .

عليك أن تدهشها كل يوم، لقد صعدَت مع جلجامش إلى السماء، و رأت هرقل يقتل تنيناً برؤوس عديدة و امرأة لديها شعرٌ من أفاعي تحول الناظر إليها إلى صخر و استمعت إلى ألف قصة و قصة من شهرزاد، عليك ألا تكون مملاً أبداً، ألا تكون إنساناً !

لن يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، سرعان ما ستتحول أنت إلى شخصية روائية كذلك، و تتحول هي أيضاً، ثم تحول كل شيء بينكما إلى فصول من هذه الرواية، ستختبرك فجأةً لأنها قررت أن تختبر بطل روايتها، تبكي من غير مقدمات إذا رأت في ذلك مدخلاً فنياً جيداً للفصل الجديد، لن تفهم شيئاً، و لا ينبغي لك أن تفهم أصلاً، كل شيء متعلقٌ بالقيمة الفنية لهذه الرواية المُعاشة فصلاً ففصلاً، لا أكثر، و كخاتمة، ربما تقرر أن تنهي كل شيء في لحظة واحدة، و ستبكي – أو لا تبالي، الأمر متوقف عند مزاجها الروائي – لأن هذا هو المناسب لرواية درامية و حزينة للغاية .


أن تكون نصراوياً في السجن

الأشياء أوعية المعاني، هكذا افترض، و المعنى الذي اكتسبه تشجيعي للنصر أصبح أعمق بكثير، ثلاثة من أشقائي يشجعون النصر، بقية عائلتي و أصدقائي يعلمون أنني أشجع النصر، يعرفون أنني كنت أحضر بعض مبارياته في الملعب، و أنني كتبت بعض المقالات التي تحاول التفلسف حول معاني التشجيع و الانتماء، كتبت مقالاً في 2011 مُنع من النشر في الصحيفة التي كنت أكتب بها فنشرته في مدونتي وقتها عن التجمع الذي قام بها النصراويون حول النادي، كل هذه الأشياء يعرفها القريبون مني، فما الذي أصبح يعنيه تشجيعي للنصر حين كنت في السجن ؟
هل تعلم ما الذي يقوله عاشقان في مدينة واحدة إذا حالت بينهما الظروف و الحواجز ؟ إنهما يلتفتان للسماء، و يتنهدان و يبتسمان و يقولان: حسناً، تظلنا سماءُ واحدةُ على الأقل، و حين يهطل المطر، يقولان كما يقول الثبيتي: و لنا مطرٌ واحدٌ كلما بلل ناصيتي بللك .
هكذا كنت أقول إذا لعب النصر في سِّري، أعلم أنني و أشقائي ننظر للمكان نفسه في الوقت نفسه، نشجع الفريق نفسه، و حين يسجل النصر، نصرخ في وقتٍ واحد، و نحتفل معاً في لحظة واحدة، هم في جدة، و أنا في الرياض، في السجن، و لكن لنا نصرٌ واحد، كلما أفرحهم أفرحني !
حين يفرح أناسٌ يعرفونك لكنهم لا يعرفون النصر لفوز النصر، يصبح النصر جزءاً من هويتك، لا يمكنك الفكاك منه، و حين يزورك أهلك أو يتصلون عليك في موعد المكالمة الأسبوعي فيحاولون التخفيف عنك، يجدون أن تصدر النصر للدوري و عودته للبطولات هو أنسب المواضيع للتندر و الضحك، يصبح هذا كله جزءاً من مجالك التداولي كله، جزءاً من حياتك، و جزءاً مما أنت عليه بين أصدقائك، لدرجة أنني حين خرجت، أُهديت إلي في يومٍ واحد، ثلاثة قمصان مختلفة متعلقة بالنصر، قال درويش مرةً حين حصار بيروت: ” نحن أيضاً يحق لنا أن نحب كرة القدم، لم لا ؟ لم لا نخرج قليلاً من روتين الموت ؟ …. ما هذا الجنون الذي يعطل الخوف ساعةُ و نصف الساعة ” كان هذا ما يفعله النصر لشخص وحيد مثلي، إنه ينتشلني من السجن للحرية ساعةً و نصف الساعة .


نزيف

صحراء الواقع تتسع يوماً على إثر يوم، المعاني تموت عطشاً، و الجفاف سيد الجميع !
الأساطير الديزناوية تذوي كلما كبرنا في العمر، تماماً كما تذوي الذاكرة، و تختفي ثقتنا بالسحري !
المآوي لم تعد تتسع للمزيد من البشر، المؤونة لا تكفي الناس، الناس التي أصبحت تأكل بعضها من الجوع !
لم تعد هناك دروب، لا دروب سوى الخطى في الأراضي البكر، الموت ينتظر الكل، الموت لا يتأخر، السقوط الحر في الهاوية .. سقوطٌ لا ينتهي .. سقوطٌ إلى الأبد !
الحقيقة مشوهة، الوجوه أقنعة، الأقنعة وجوه، التشوه حقيقة، من يجيد التفريق ؟ لا أحد !
القلوب مثقلة بالجراح، القلوب العرجاء لا تسير جيداً، القلوب العمياء لا تبصر، القلوب الموجوعة لا تقول رغم الوجع غير الصدق !
النزيف أبدي، نزيف الدماء يمس المعاني، نزيف المعاني يمس الوجود !


في فلسفة التواصل (١)

أعتقد أن الانسان ذرة، و سيبقى دائماً ذرة، كلما تماهيت و لو قليلاً مع أفكار أبعد عن الفردانية تضطرني التجربة المباشرة بالدرجة الأولى للعودة إلى هذه الفكرة، نحن نتشابه ربما، نحن نعيش في مجتمعات بحكم الضرورة، نفكر من خلال لغة جمعية، لكننا وحيدين حتى النخاع، نعرف في أعماقنا – أو نتوهم – أن أحداً لا يشبهنا تماماً، نختلف بقدر ما، و هذا القدر كافي تماماً للشعور بالاغتراب المستمر، أو بالوحدة الأزلية .. لو اقتصر الأمر عند هذا الحد لكانت الوحدة مستساغة، و الاغتراب أمراً يمكن التعايش معه، لكن الحقيقة الموضوعية أننا نحتاج للآخر، جئنا لهذا الوجود محتاجين من أول لحظة، لم نكن قادرين على الصمود لولا الآخر، لو كنا نكفي أنفسنا لهان الأمر، لكن هذا الاحتياج للآخر هو باب كل شقاء في علاقات البشر ببعضهم، أن تكون في موقع المحتاج أو المحتاج إليه، الموقعان يشكلان عذاباً كافياً عندما يكون ما نجد أقل من المتوقع، التوقعات مرتبطة باحتياجنا أصلاً، لو لم نحتج لما توقعنا، في العلاقات التي تبدو مثالية، يجد الطرفان في بداية الأمر مقابلاً يساوي التوقعات أو يقترب منها، و عندما يبدأ هذا الفارق في الاتساع، تبدأ العلاقة بالتلاشي، و يصاب الانسان بالتعاسة ؟ ألم يكن من الممكن تجنب هذه التعاسة لو لم يحصل شيء من البداية ؟
في الغالب لا، لأنه كان سيحصل و لا بد .. لأننا لا نكفي أنفسنا أبداً !
بالتوسع في معنى الحاجة للآخر، سنجد أننا لا يمكن أن نكون أغنياء عن الآخر في أدق تفاصيل حياتنا، حتى لو ضربنا مثلاً بواحدة من العلاقات الأكثر مباشرة و ميكانيكية، العلاقة مع بائع خضرة مثلاً، نجد أن التوتر في هذه العلاقة منخفض لكنه ليس معدوماً أبداً، كلما لبى البائع و المشتري حاجتيهما بأقل قدر من الاحتكاك و المماحكة ، و أقل قدر من التوقعات بينهما، كن خطر التوتر أقل، في اللحظة التي يتوقع البائع ثمناً أعلى، أو حتى سلوكاً معيناً، و بالمقابل في اللحظة التي يتوقع فيها المشتري سعراً أقل أو جودة أعلى، يزداد خطر التوتر، هذه واحدة من أبسط أشكال الاحتكاك البشري في يومنا العادي، و لكن ماذا لو تكلمنا عن علاقات أكثر تعقيداً ؟ عن علاقة ابن بأمه، أو علاقة حبيبين أو زوجين، إن أقرب الناس لنا، بالمعنى الشعوري تحديداً، ثم بكل معاني القرب الأخرى هم أكثر الناس قدرة على إتعاسنا !
و كل سعادة تأتي عن طريقهم هي سعادة مرهونة بهم، و هي سعادة محفوفة بالشقاء ..


تدجين الفن

قديماً طرد أفلاطون الفنانين من مدينته الفاضلة لأنهم أقرب إلى المادة و أبعد عن المُثُل، النحاتين يقلدون صوراً هي صور للمثال، تقليد التقليد يجعلنا – عند أفلاطون – أبعد بدرجة إضافية عن المثال، و الشعراء ليسوا أفضل حالاً عنده .. فيما بعد، أصبح الشعر و الموسيقى على هرم الفنون الإنسانية في مفارقة ملفتة، أنها فنون منعتقة تماماً من المادة المحسوسة، و المادة عدوة الروح عند أصحاب هذه الثنائية، و لكن ظلّ الفن مرتبطاً بالجمال، كان لا بد أن يكون الفن جميلاً أولاً، من غير شرطة عند البعض، و بشرطة عند البعض الآخر، لكن الجمال و ليس المعنى ظلّ هو الجوهري، في القرون الأخيرة انفك الارتباط بين الجمال و الفن، أصبح الفن فناً لأنه كذلك، و ليس لأنه جميل، و لكن ما هو الفن ؟ كان هذا السؤال الأساسي الذي طرحه فلاسفة الاستطيقا – أو علم الجمال كتعريب اختاره معظم المترجمين – بدايةَ من بومغارتن ..

كانت المؤسسة في الغالب، و قد تمت مأسسة الفن، كما تتم مأسسة كل شيء آخر .. كل شيء آخر، هي من تضع شروط الفن و تملك حق الإجابة عن هذا السؤال، جورج ديكي، الفيلسوف الأمريكي، قال أن العمل لا يكون فنياً إلا بالنسبة للمؤسسة هو قبل ذلك يكون مرشحاً فقط لأن يكون عملاً فنياً، مرشحاً لاكتساب هذه الصفة و هذا اللقب الذي ستتفضل المؤسسة الفنية بمنحه أو ستمتنع، يضرب مثالاً ذائعاً بمارسيل دوشان، الفنان الهدمي الذي قرر أن يضرب بقوانين المؤسسة عرض الحائط حين صمم المبولة، و حين وضع عجلة دراجة كعمل فني، و قرر أن هذا فن ! في بادئ الأمر قدم دوشان نافورة .. مجرد نافورة جاهزة، لتكون عملاً فنياً .. رفضته المؤسسة و لم يتم تسجيله في العرض، لاحقاً .. قبلت المؤسسة به و بأعماله، و صارت أعماله تعرض في المعارض، و أصبح دوشان و معايير دوشان جزءاً من معايير المؤسسة .. ما الذي حصل بالضبط ؟ أصبحت أعمال دوشان فارغة في جوهرها من كل معنى هدمي، المعاني التي كانت تكتسبها الأعمال و هي تعرض في صالات هامشية و موازية, في صوالين بيوت الفنانين أنفسهم، أو في مقاهيهم و حوانيتهم، في أسبوع جدة للفن، الذي أقيم في فبراير 2014، تم احتواء أعمال هدمية في جوهرها، تم تدجينها، و تفريغها من كل معنى نضالي ضد المؤسسة، الجرافيتي مثالاً، فن الشوارع، فن المهمشين و الجوّالة، تم عرض عملين جرافيتي، الأول لفنان ” زركش ” بالوردي ” الناعم ” بعض العمائر القديمة في جدة، و الثاني تم عرضه داخل صالة عرض !

لم يعد الفن متصلاً بالجمال، لكنه أصبح أكثر اتصالاً بالمعنى، و أصبح سؤال: ما المعنى الذي ينطوي عليه هذا العمل، أكثر مركزية من سؤال الشعور الجمالي الذي نشعر به و نحن ننظر إليه، قد لا يكون هناك شعور جمالي أصلاً، قد يكون الشعور بالقبح فناً، أو التقزز، أو الوجع .. لهذا أنا أتوجع حين لا يتوجع الفنان، أو ينتبه، إلى أنه يحمل ريشةً مدجنة !

الفن الجميل من أجل الجمال فقط ترف برجوازي لئيم في ظل أننا لا نشاهد الأعمال و نحن خاوين من المعنى، خاوين من الوجع، من الأسئلة و القلق، من الحزن، و من الإنسان ! على الفن أن يستجيب لإنسانيتنا و أن يتفاعل مع دواخلنا ..


حبٌ متسلل

أكان لِزاماً .. و أنت تعيدين نبتتنا للحديقةِ .. أن تعبري السورَ ..

أن تصدري كل هذا الضجيج الجميلِ .. و أن تنشري النور خلفكِ ..

أن توقظي الـ ظل مختبئاً زمناً: حبنّا !

 

أكان لزاماً و أنت تعودين كل صباحٍ لتسقين نبتتنا .. أن تنامي قليلاً على حافة الظلِّ ..

أن ترسمي وردةً للفراشِ ..

و أن تكتبي للعصافير أغنية سوف تفضح أسرارنا ..!

 

أكان لزاماً و أنت تجيئين قبل الصباح ..

و باب الحديقة منفرجٌ – مثل ثغري – قليلاً، و آب الحقيقة مندهشٌ – مثل حظي – و يغدو جميلا ..!

بأن تنثري القمح خلفك كي يستدل علينا الصباح فيشرق أبكر من أجلنا !

 

أكان لزاماً و أنت تجيئين بعد الشروق ..

و باب الحديقة قد أهملته العصافير، أن تدخلي في شهود الوجودِ ..

بكفك حفنة شمسٍ و بتلة نورٍ و حرفان مني و منكِ ..

و أن تعلني – يا حبيبةُ – في مشهد الناس إشراقنا !


قالت له الريح !

 

يقولون: تعجز ..!
تقول له الريح: حاول .. تظللك الأمنيات .. و أحرس خطوك !
– يموت طموحا !
قالت له الريحُ: لا تدعي النبل .. من ينصر الضعفاء يظل وحيداً ..!
– و ظل وحيداً !
قالت له الريحُ: مُت صامتاً .. فيكَ أغنيةُ العشق مدفونة .. لا تقلها !
– لم يقلها .. و مات !
قالت له الريحُ: وفر دموعك في الغدِ متسعٌ للعزاء .. و في الليل يرفعك الأصدقاء !
– لم يجيئوا .. فمات !
قالت له الريحُ: كانت تحبك .. لا تنتظر عطف هذا الوجود .. و كنكَ !
– و لا كان !
قالت له الريحُ: لا تحتفل ! كنك أنت حزيناً جميلاً .. جميلاً حزيناً ..
– و لم يحتفل !